كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الفاضل اليمني: إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث، وقيل: كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم: وروي ذلك عن الكلبي.
والضحاك، وعن مجاهد وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به، وقيل: بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم وله نظير في بلادنا اليوم، ولا مستعان إلا بالله العلي العظيم.
والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال.
{وَتَتَّخِذُونَ} أي تعملون {مَصَانِعَ} أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة، وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء.
وعن مجاهد أنها القصور المشيدة، وقيل: الحصون المحكمة وأنشدوا قول لبيد:
وتبقى جبال بعدنا ومصانع

وليس بنص في المدعى {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء، وقيل: هي للتعليل وفي قراءة عبد الله {كَى تَخْلُدُونَ}.
قال ابن زيد: هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون، وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المعنى كأنكم خالدون وقرئ بذلك كما روي عن قتادة، وفي حرف أبي {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه، وحكى ذلك صريحًا الواقدي عن البغوي وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة ووقع في صحيح البخاري أن لعل في الآية للتشبيه. انتهى.
وقرأ قتادة {تَخْلُدُونَ} مبنيًا للمفعول مخففاف ويقال: خلد الشيء وأخلده غيره، وقرأ أبي وعلقمة {تَخْلُدُونَ} مبنيًا للمفعول مشددًا كما قال الشاعر:
وهل يعمن إلا سعيد مخلد ** قليل هموم ما يبيت بأوجال

{وَإِذَا بَطَشْتُمْ} أي أردتم البطش بسوط أو سيف {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة.
وأول الشرط بما ذكر ليصح التسبب وتقييد الجزاء بالحال لا يصححه لأن المطلق ليس سببًا للمقيد، وقيل: لا يضر الاتحاد لقصد المبالغة، وقيل: الجزائية باعتبار الإعلام والإخبار وهو كما ترى ونظير الآية قوله:
متى تبعثوها تبعثوها دميمة

ودل توبيخه عليه السلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية.
{فاتقوا الله} واتركوا هذه الأفعال {وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم.
{واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة، وقوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ} منزلة منزلة بدل البعض كما ذكره غير واحد من أهل المعاني، ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم الله تعالى والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوبًا في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى، وقوله سبحانه: {أَمَدَّكُمْ بأنعام} الخ أوفى بتأدية ذلك المراد لدلالته على النعم بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين فوزانه وزان وجهه في أعجبني زيد وجهه لدخول الثاني في الأول لأن {مَا تَعْلَمُونَ} يشمل الأنعام وما بعدها من المعطوفات، ولا يخفى ما في التفصيل بعد الإجمال من المبالغة، وفي البحر أن قوله تعالى: {بأنعام} على مذهب بعض النحويين بدل من قوله سبحانه: {بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 132] وأعيد العامل كقوله تعالى: {اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20، 21] والأكثرون لا يجعلون مثل هذا إبدالًا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل وإن كان المعنى واحدًا ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد العامل عندهم إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به نحو مررت بزيد بأخيك. انتهى.
ونقل نحوه عن السفاقسي، وقال أبو حيان: الجملة مفسرة لما قبلها ولا موضع لها، وبدأ بذكر الأنعام لأنها تحصل بها الرياسة والقوة على العدو والغنى الذي لا تكمل اللذة بالبنين وغيرهم في الأغلب إلا به وهي أحب الأموال إلى العرب ثم بالبنين لأنهم معينوهم على الحفظ والقيام عليها ومن ذلك يعم وجه قرنهما، ووجه قرن الجنات والعيون في قوله تعالى: {وجنات وَعُيُونٍ} ظاهر وكذا وجه قرنهما مع الأنعام، وقوله سبحانه: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} الخ في موضع التعليل أي إني أخاف عليكم إن لم تتقوا وتقوموا بشكر هذه النعم: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وعلل بما ذكر دون استلزام التقوى للزيادة لأن زوال النعمة يحزن فوق ما تسر زيادتها ودرء المضار مقدم على جلب المنافع:
{قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الواعظين} فإنا لا نرعوي عما نحن عليه قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه السلام، وعدلوا عن أم لم تعظ الذي يقتضيه الظاهر للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه عليه السلام لما في كلامهم على ما في النظم الجليل من استواء وعظه والعدم الصرف البليغ وهو عدم كونه من عداد الواعظين وجنسهم، وقيل: في وجه المبالغة إفادة كان الاستمرار و{الواعظين} الكمال واعتبارهما بقرينة المقام بعد النفي أي سواء علينا أوعظت أم استمر انتفاء كونك من زمرة من يعظ انتفاء كاملًا بحيث لا يرجى منك نقيضه، وقال في البحر: إن المقابلة بما ذكر لأجل الفاصلة كما في قوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} [الأعراف: 193] وكثيرًا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه وليس بشيء كما لا يخفى وروي عن أبي عمرو والكسائي ادغام الظاء في التاء في {وعظت} وبالإدغام قرأ ابن محيصن والأعمش إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ: {أوعظتنا} وينبغي أن يكون إخفاء لأن الظاء مجهورة مطبقة والتاء مهموسة منفتحة فالظاء أقوى منها والإدغام إنما يحسن في المتماثلين أو في المتقاربين إذا كان الأول أنقص من الثاني.
وأما إدغام الأقوى في الأضعف فلا يحسن، وإذا جاء شيء من ذلك في القرآن بنقل الثقات وجب قبوله وإن كان غيره أفصح وأقيس.
وقوله تعالى: {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} تعليل لما أدعوه من المساواة أي ما هذا الذي جئتنا به الإعادة الأولين يلفقون مثله ويدعون إليه أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدمونا من الآباء وغيرهم ونحن بهم مقتدون، وقرأ أبو قلابة.
والأصمعي عن نافع {خُلِقَ} بضم الخاء وسكون اللام، والمعنى عليه كما تقدم.
وقرأ عبد الله وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي {خُلِقَ} بفتح الخاء وسكون اللام أي ما هذا إلا اختلاق الأولين وكذبهم، ويؤيد هذا المعنى ما روى علقمة عن عبد الله أنه قرأ: {إِلاَّ اختلاق الاولين} ويكون هذا كقول سائر الكفرة {أساطير الاولين} [الأنعام: 25] أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيي كما حيوا ونموت كما ماتوا، ومرادهم إنكار البعث والحساب المفهوم من تهديدهم بالعذاب، ولعل قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي على ما نحن عليه من الأعمال أصرح في ذلك.
{فَكَذَّبُوهُ} أي أصروا على تكذيبه عليه السلام {فأهلكناهم} بسببه بريح صرصر.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}. اهـ. بتصرف يسير.
وقال الشيخ سيد قطب:
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)}.
وقوم هود كانوا يسكنون الأحقاف، وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة من الطوفان الذي طهر وجه الأرض من العصاة.
وقد وردت هذه القصة في الأعراف مفصلة وفي هود، كما وردت في سورة المؤمنون بدون ذكر اسم هود وعاد. وهي تعرض هنا مختصرة بين طرفيها: طرف دعوة هود لقومه، وطرف العاقبة التي انتهى إليها المكذبون منهم. وتبدأ كما بدأت قصة قوم نوح: {كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين}.
فهي الكلمة الواحدة يقولها كل رسول: دعوة إلى تقوى الله وطاعة رسوله. وإعلان للزهد فيما لدى القوم من عرض الحياة، وترفع قيم الأرض الزائلة، وتطلع إلى ما عند الله من أجر كريم.
ثم يزيد ما هو خاص بحال القوم وتصرفاتهم، فينكر عليهم الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة، والإعلان عن الثراء، والتكاثر والاستطالة في البناء؛ كما ينكر غرورهم بما يقدرون عليه من أمر هذه الدنيا، وما يسخرونه فيها من القوى، وغفلتهم عن تقوى الله ورقابته: {أتبنون بكل ريع آلهة تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون}.
والريع المرتفع من الأرض. والظاهر أنهم كانوا يبنون فوق المرتفعات بنيانًا يبدو للناظر من بعد كأنه علامة. وأن القصد من ذلك كان هو التفاخر والتطاول بالمقدرة والمهارة. ومن ثم سماه عبثًا. ولو كان لهداية المارة، ومعرفة الاتجاه ما قال لهم: {تعبثون}. فهو توجيه إلى أن ينفق الجهد، وتنفق البراعة، وينفق المال فيما هو ضروري ونافع، لا في الترف والزينة ومجرد إظهار البراعة والمهارة.
ويبدو كذلك من قوله: {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أن عادًا كانت قد بلغت من الحضارة الصناعية مبلغًا يذكر؛ حتى لتتخذ المصانع لنحت الجبال وبناء القصور، وتشييد العلامات على المرتفعات؛ وحتى ليجول في خاطر القوم أن هذه المصانع وما ينشئونه بوساطتها من البيان كافية لحمايتهم من الموت، ووقايتهم من مؤثرات الجو ومن غارات الأعداء.
ويمضي هود في استنكار ما عليه قومه: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.
فهم عتاة غلاظ، يتجبرون حين يبطشون؛ ولا يتحرجون من القسوة في البطش. شأن المتجبرين المعتزين بالقوة المادية التي يملكون.
وهنا يردهم إلى تقوى الله وطاعة رسوله، لينهنه من هذه الغلظة الباطشة المتجبرة:
{فاتقوا الله وأطيعون}.
ويذكرهم نعمة الله عليهم بما يستمتعون به ويتطاولون ويتجبرون، وكان الأجدر بهم أن يتذركوا فيشكروا، ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم، وأن يعاقبهم على ما أسرفوا في العبث والبطش والبطر الذميم!
{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وهكذا يذكرهم بالمنعم والنعمة على وجه الإجمال أولا: {أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ}. وهو حاضر بين أيديهم، يعلمونه ويعرفونه ويعيشون فيه، ثم يفصل بعض التفصيل: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} وهي النعم المعهودة في ذلك العهد وهي نعمة في كل عهد، ثم يخوفهم عذاب يوم عظيم. في صورة الإشفاق عليهم من ذلك العذاب. فهو أخوهم، وهو واحد منهم، وهو حريص ألا يحل بهم عذاب ذلك اليوم الذي لا شك فيه.
ولكن هذه التذكرة وهذا التخويف، لا يصلان إلى تلك القلوب الجاسية الفظة الغليظة. فإذا الإصرار والعناد والاستهتار.
{قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ}.
فما يعنينا أن تعظ أو ألا تكون أصلا من الواعظين! وهو تعبير فيه استهانة واستهتار وجفوة. يتبعه ما يشي بالجمود والتحجر والاعتماد على التقليد! {إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}.
فحجتهم فيما هم عليه، وفيما يستنكره عليهم هود، أنه خلق الأولين ونهجهم. وهم يسيرون على نهج الأولين! ثم إنهم لينفون احتمال العذاب على خلق الأولين! {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}! ولا يستطرد السياق هنا في تفصيل ما ثار بينهم وبين رسولهم من جدل فيمضي قدما إلى النهاية: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ}.
وفي كلمتين اثنتين ينتهي الأمر ويطوى قوم عاد الجبارون وتطوى مصانعهم التي يتخذون ويطوى ما كانوا فيه من نعيم، من أنعام وبنين وجنات وعيون! وكم من أمة بعد عاد ظلت تفكر على هذا النحو، وتغتر هذا الغرور، وتبعد عن اللّه كلما تقدمت في الحضارة وتحسب أن الإنسان قد أصبح في غنية عن اللّه! وهي تنتج من أسباب الدمار لغيرها، والوقاية لنفسها، ما تحسبه واقيا لها من أعدائها، ثم تصبح وتمسي فإذا العذاب يصب عليها من فوقها ومن تحتها عن أي طريق {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. اهـ.